|
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
|
خيارات وادوات |
عبد المجيد إسماعيل الشهاوي
2023 / 3 / 15
دعونا نُذَّكِر مجدداً أن هؤلاء الرجال على المستوى الشخصي ربما ما كانوا يسعون إلى توطيد نمط الحكم المطلق لحد ذاته. لكنهم وبلا شك صدقوا- وكان من السهل أن يصدقوا- أنهم وحدهم كانوا يعرفون ما هو الصواب لمجتمعهم وأنهم وحدهم القادرون على تحقيقه بمجرد أن يستتب لهم الأمر والنهي المطلق ويتخلصون من أعدائهم. وكانوا في مسعاهم إلى فرض حكمهم على استعداد لتجاوز كل الحدود، سواء أكانت حدود الله أو البشر، على طبيعة وسائلهم. وحتى تحين الساعة التي يحكمون عندها قبضتهم بالكامل، وضعوا بعيداً عند الدرج الأسفل على سلم أولوياتهم العملياتية رفاهية وسعادة الشعوب الموكلة لعنايتهم.
الآن الظرف الغالب فيما يتعلق بالنظام السوفيتي أنه وصولاً إلى اليوم الحاضر لم تكتمل قط عملية التوطيد السياسي هذه واستمر الرجال في الكرملين يوحلون أكثر فأكثر في مستنقع الصراع لإحكام قبضتهم وإنفاذ أمرهم على السلطة التي استولوا عليها في نوفمبر 1917. وصوب هذه الغاية، وجهوا بنادقهم في المقام الأول ضد قوى الداخل، المعارضة الوطنية داخل المجتمع السوفيتي ذاته. لكنهم حرصوا أيضاً في ذات الوقت على حماية أنفسهم ضد العالم الخارجي. لقد لقنتهم الأيديولوجيا، كما رأينا، أن العالم الخارجي معادي بطبعه ومن الواجب عليهم في نهاية المطاف الإطاحة بهذه القوى السياسية المعادية والمتربصة بهم فيما وراء حدودهم. في هذا السياق، قدم التاريخ والتقاليد الروسية العتيدة والممتدة وجبة دسمة لتغذية هذه المشاعر المتوجسة. في المقابل، لم تمر عدائيتهم هذه تجاه العالم الخارجي مرور الكرام، بل قلَّبت ضدهم الخصوم والأعداء من كل حدب وصوب؛ ليجدوا أنفسهم عالقين في مطاردة لا تنتهي لأعداء كانوا من صناعة أيديهم أنفسهم بالأساس. لا شك أن كل واحد منا يستطيع أن يبرهن لنفسه على صواب حجته عندما يتصور العالم عدواً له؛ لأنه عندما يردد بينه وبين نفسه قناعته هذه مراراً وتكراراً ويتخذ منها مبرراً لتصرفاته، سيجد نفسه حتماً على حق في نهاية المطاف.
هكذا كانت طبيعة العالم الذهني للقادة السوفييت، علاوة على فرضيات أيديولوجيتهم الأساسية، تقضي باستحالة الاعتراف الرسمي بوجود أي أحقية أو مبرر من أي نوع لدى معارضيهم لكي يعارضونهم. ولا يمكن أن تنهض معارضة لهم، وفقاً لنظريتهم، سوى من قوى الرأسمالية المتعفنة وغير القابلة للإصلاح. لذلك، طالما كانت بقايا من الرأسمالية لا تزال موجودة في روسيا، كان بمقدورهم أن يلقوا عليها، كعنصر داخلي، جانباً من اللوم عن إبقائهم على القبضة الديكتاتورية على المجتمع. لكن بعد تطهير هذه البقايا، رويداً رويداً، أخذ هذا المبرر في التلاشي؛ وعند الإعلان رسمياً عن القضاء عليها أخيراً، اختفى كليتاً. وقد تسببت هذه الحقيقة في إحدى أبرز المفارقات التي فرضت نفسها بقوة على النظام السوفيتي: لما كانت الرأسمالية لم تعد موجودة بعد في روسيا وما عاد بالإمكان الادعاء بوجود معارضة حقيقية أو واسعة الانتشار للكرملين تنبثق تلقائياً من الجماهير المُحررة تحت السلطة الشيوعية، أصبح لزاماً على النظام أن يبرر سبب إصراره على ممارسة السلطة عبر الوسائل الديكتاتورية عن طريق إبراز وتضخيم التهديد الآتي من الرأسمالية بالخارج.
في الحقيقة، هذه المفارقة بدأت تطل برأسها منذ وقت مبكر. ففي عام 1924 دافع ستالين تحديداً عن مبرر الاحتفاظ بـ"أجهزة القمع"، التي كان من ضمنها الجيش وجهاز الشرطة السرية، على خلفية أنه "طالما بقي هناك تطويق رأسمالي للاشتراكية، سيظل خطر التدخل ماثلاً مع كل العواقب المتأتية من ذلك الخطر." طبقاً لهذه النظرية، تم باستمرار منذ هذا الوقت المبكر فصاعداً تصوير كل قوى المعارضة الوطنية داخل روسيا كعملاء لقوى الرجعية الأجنبية المعادية للسلطة السوفيتية بالخارج.
على المنوال نفسه، تم وضع تشديداً مبالغاً فيه على الفرضية الشيوعية الأصلية حول العداء المستحكم بين العالمين الرأسمالي والاشتراكي. لكن هناك دلائل عديدة تشير بوضوح إلى أن هذا التشديد لا يلقى ما يؤيده في الواقع في حقيقة الأمر. وهناك أيضاً خلط ملحوظ بين الوقائع الحقيقية بخصوصه وبين وجود غضب حقيقي بالخارج مرده إلى الفلسفة والتكتيكات السوفيتية وأحياناً إلى وجود مراكز كبرى للقوة العسكرية، لاسيما النظام النازي في ألمانيا والحكومة اليابانية أواخر الثلاثينات، كانت قد وضعت بالفعل مخططات عدائية ضد الاتحاد السوفيتي. في المقابل، هناك كذلك أدلة وجيهة على أن التشديد الذي وضعته موسكو على التهديدات المستهدفة المجتمع السوفيتي من العالم خارج حدوده لم تمليها حقائق العداء الأجنبي بقدر ما أملتها ضرورة تبرير النظام السوفيتي نفسه لسبب احتفاظه بسلطة ديكتاتورية على شركاء الوطن.
الآن كان الإبقاء على هذا النمط الديكتاتوري للسلطة السوفيتية، وهو على وجه التحديد السعي وراء تجميع سلطة لا محدودة داخلياً، مقترنة مع ترسيخ أسطورة عداء أجنبي غير مهادن، قد قطع شوطاً بعيداً في صناعة الآلية الفعلية للسلطة السوفيتية كما نعرفها اليوم. لذا كانت أجهزة الإدارة الداخلية التي لا تخدم هذا الغرض في المقام الأول تُهمل حتى تذبل على الشجرة. بينما انتفخت الأجهزة التي خدمت هذا الغرض وتضخمت لأكبر من حجمها الطبيعي بشكل غير متناسب. أصبح أمن السلطة السوفيتية كله مرهون على الانضباط الفولاذي داخل الحزب، وعلى شراسة وبطش جهاز الشرطة السرية، وعلى احتكار اقتصادي لا يشبع من جانب الدولة. هكذا أصبحت "أجهزة القمع" ذاتها التي كان القادة السوفييت ينشدون من خلالها تحقيق الأمن والحماية لأنفسهم ضد القوى المنافسة، هي نفسها وإلى حد بعيد السادة الجدد على نفس هؤلاء الذين قد صُممت في الأصل لخدمتهم. واليوم، تُكرس حصة الأسد من هيكل السلطة السوفيتية لاستكمال الديكتاتورية واستدامة خرافة تصوير روسيا كدولة تحت الحصار، يتلصص عليها الأعداء ومتربصون بها من خلف الأسوار. ومن واجب ملايين البشر الملقى على عاتقهم حفظ هذا النظام وضمان استمراريته أن يذودوا بدمائهم وأرواحهم عن هذه الخرافة الروسية، لأنهم من دونها لن تكون لهم قيمة هم أنفسهم.
إلى حد ما وصلت إليه الأمور اليوم، لم يعد حتى بمقدور القادة السوفييت بعد أن يحلموا بمجرد أخذ المسافة اللائقة بينهم وبين أجهزة القمع هذه. لأن السعي الدؤوب والمستمر وراء توطيد سلطة مطلقة منذ زهاء ثلاثة عقود الآن، وبعنف وقسوة ودموية غير مسبوقة (من حيث النطاق على الأقل) في الأزمنة الحديثة، قد خلق مجدداً على الصعيد الداخلي، كما فعل من قبل على الصعيد الخارجي، أعداءً له من نفس جنسه وطبعه. لقد تسببت تجاوزات المنظومة الشرطية في تحويل المعارضة المحتملة للنظام بالداخل إلى وحش أكثر ضخامة وخطورة وأشد فتكاً بكثير مما كان مقدراً لها في حال لم تحدث هذه التجاوزات.
أكثر من ذلك، ما عاد بمقدور هؤلاء الحكام الاستغناء عن ذات الخرافة التي بواسطتها قد برروا ودافعوا عن استئثارهم بسلطة مطلقة وديكتاتورية؛ بعدما تغلغلت هذه الخرافة وانتشرت أكثر فأكثر بمرور الزمن عبر الفلسفة السوفيتية لدرجة يصعب معها، على خلفية ما ارتكب باسمها بالفعل من تجاوزات مروعة، مجرد أن يرفع المرء فيها بصره؛ وباتت الآن من مُعَّلَقات محراب الفكر السوفيتي التي تحظى بقداسة وإجلال يفوقان كثيراً ما تحتاجه مجرد أيديولوجيا.
_______________________
ترجمة: عبد المجيد الشهاوي
رابط المقال الأصلي:
https://www.foreignaffairs.com/articles/russian-federation/1947-07-01/sources-soviet-conduct