|
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
|
خيارات وادوات |
عبد المجيد السخيري
2023 / 2 / 5
هذا نص الحوار الكامل الذي أُجري معنا مع بداية الأزمة الوبائية من قبل الصحفي محمود الخواجة، مُنتج بُودكاست في منصة "صوت"، ورغم أن حدّة الأزمة تراجعت من نواح عديدة، فإن شبحها ما يزال يحوم حول العالم، حتى أننا لم نتوقع أن يستمر الوباء في الانتشار بالشكل الذي عشناه لـثلاث أعوام متتالية، ما يدفعنا لمزيد من التحفظ اليوم بشأن تطور الأزمات الوبائية. أجري الحوار عن بعد بتاريخ 25 غشت 2020، وأذيعت مقتطفات منه على المنصة، ومقرها العاصمة الأردنية عمان. العنوان من وضع الكاتب.
- س- في ضوء نماذج تاريخية لأوبئة مختلفة، على رأسها الطاعون بأنواعه، نسأل متى كانت المجتمعات تميل إلى إلقاء اللوم على فئة معيّنة دون غيرها؟ لماذا كانت هذه الفئة في بعض الأحيان أقلية دينية (أوروبا منتصف القرن الرابع عشر)، وفي أحيان أخرى كانت العاملين في القطاع الصحي وسلطات الاستعمار (الهند أواخر القرن التاسع عشر)؟ ونسأل كذلك هل هذه الصفة (إلقاء اللوم على كبش فداء ما) تتّصف بها المجتمعات بغضّ النظر عن الزمان والمكان؟
ج-هذه المسألة ترتبط عموما بمفعول الأزمات الحادة والكوارث العظمى في اللاوعي الجمعي على مر العصور، وليس فقط بالنسبة للأوبئة والجوائح. فأمام هول الصدمة التي تحدثها أزمة طارئة على شكل وباء فتاك أو حرب مدمرة أو مجاعة قاتلة أو اضطرابات اجتماعية غير مؤطره، وغير ذلك من الكوارث الطبيعية العنيفة، يجنحُ الناس في الغالب إلى تصديق كل الروايات التي يتم إطلاقها من قبل بعض الفئات، من قبيل تجار الأزمات واليأس، فتجد رواجا سريعا بينهم، خصوصا منها تلك التي تضرب على الوتر الحساس-إما الدين أو العرق أو الثروة.. إلخ، وتستغل حالة التراخي التي يُصاب بها العقل في مثل هذه الظروف الاستثنائية، وتبلّد الحس لتعطيل الطاقة النقدية لدى الناس وتطويع مشاعرهم وعواطفهم لجعلهم يصدقون بسهولة وبلاهة كل ما يُملى أو يُمرر لهم من تفسيرات خرافية أو نظريات مؤامرة أو تشكيكات غير مستندة لأي براهين علمية أو أدلة ملموسة أو مقبولة عقلانيا، فضلا عن اختراع أعداء معينين يُلقى عليهم اللوم، أو أكباش فداء يتم التضحية بهم وتقديمهم قرابين لتهدئة روع المجتمعات المصابة وترضية العامة لتفادي الاضطرابات والتمرد، بل وحتى الثورات التي يمكن أحيانا أن تجد أرضية خصبة في الأزمات الصحية والمجاعات والحروب كما يشهد على ذلك التاريخ. لقد حدث ما يشبه هذا منذ العصور القديمة، فشاعت مع الكوارث الطبيعية وانتشار الأوبئة تفسيرات أسطورية واخترعت روايات عجيبة للسيطرة على الانفعال الجمعي، وظلت ملازمة لكل الأزمات من هذا النوع حتى في عصرنا. في القرون الوسطى لما ضرب الطاعون الأسود، كما أُطلق عليه، سرت نظرية مؤامرة بين الناس مفادها أن اليهود هم من يقفون وراء انتشار الوباء، ولو لا تدخل البابا بنفسه لتفنيذها لتم ارتكاب مجازر رهيبة في حق الأقلية اليهودية بأوروبا. وفي العصر الحديث أيضا شاعت نظريات المؤامرة، وإن وجدت هذه المرة بعض من التصديق حتى من قبل المثقفين والمتعلمين والسياسيين لارتباطها بمقاومة الاستعمار، أو لوجود سوابق تاريخية عند بعض القوى ومراكز القوة التي لا تتورع في اصطناع الأزمات وارتكاب المجازر حتى لتوجيه الراي العام في الاتجاه المرغوب، أو للتأثير على نتائج الانتخابات، أو لتهيئة الجو العام لتمرير قرارات سياسية أو اقتصادية أو ما شابه. ففي عدد من البلدان المستعمرة في آسيا، كالهند، وبأفريقيا ساد الاعتقاد بأن الاطباء والعاملين في القطاع الصحي تحت إشراف الأجهزة الاستعمارية مسؤولون عن نشر بعض الأمراض التي اُبتلي بها الأهالي والغريبة عن بيئتهم، مثلما ظل الأهالي يتوجسون من الخدمات الطبية باعتبارها نشاطا مشبوها يروم السيطرة على السكان الأصليين أو تغريبهم وما إلى ذلك. حتى الشحاذون كانوا ضحايا هذه العقلية التآمرية ونالوا نصيبهم من التأثيم.
نعم، منذ آلاف السنين ظلت النظرة السائدة للمرض، خصوصا المعدي منه، والوبائي بشكل أخص، تعتبر أنه إما لعنة إلهية أو عقاب من الآلهة، كما في المجتمعات القديمة غير التوحيدية، أو تسليط للغضب الإلهي على الخارجين عن الطاعة والشواذ والأشرار ...إلخ في المجتمعات التوحيدية، أو أنه قدر محتوم، وفي أحسن الأحوال خطأ بشري. وظل الأمر كذلك حتى حلول القرن العشرين لتبدأ هذه النظرة في التراجع بعدما صار يُنظر إلى المرضى على أنهم ذوي حقوق وبحاجة للعناية. بعض الأمراض ظلت حتى وقت قريب مصدرا للعار حيث يصير المصاب بها منبوذا، مثل السيدا، وهو المرض الذي كان أيضا محل تفسيرات لا عقلانية، ولذلك نجد أن البحث عن كبش فداء لتحميله وزر أزمة أو مصيبة لا يزال قائما إلى أيامنا، ولا نظن أنه سيختفي يوما بشكل نهائي ما دامت الحياة البشرية لا تتوقف على النشاط العقلاني البارد بقدر ما تحتاج إلى تغذية روحية والخيال، وبالتالي يسقط الناس في أحيان كثيرة في شراك الأوهام والخرافات ويصدقون الأكاذيب مهما بدت فاضحة.
س- في ضوء نماذج أخرى، نرى أنّ الأزمة (الوباء) حفّزت قيم العطاء والتكافل والوحدة في سياقات أخرى (ميلانو، إيطاليا أواخر القرن السادس عشر). بالنظر إلى ذلك نسأل، متى تولّد الأزمات والأوبئة الكراهية والعنف أو تعزّزهما؟ ومتى تولّد الوحدة والتكافل أو تعزّزهما؟
ج-من الطبيعي أن تولد الأزمات الكبرى من نوع الأزمات الصحية كالأوبئة والجوائح الفتاكة حالة من الارتجاج الاجتماعي والاهتزاز النفسي، فعندما يؤدي وباء خطير مثل الطاعون إلى هلاك ثلث أو ثلثي سكان منطقة ما أو داخل حدود دولة، كما حدث في أوروبا أكثر من مرة منذ القرن 14، لا بد أن يترتب عن ذلك اختلال كبير في العلاقات والتنظيم الاجتماعيين واضطراب مواز في القيم والرؤى والعواطف الانسانية. فإما تغلب مشاعر الكراهية ويميل الناس إلى العنف في مواجهة تداعيات الأزمة وآثارها الاقتصادية والمعيشية، فتتراجع سلطة القوانين وتنحل الروابط التضامنية وتنتشر الفوضى، بل وقد تسقط الدولة وينهار النظام في لحظة، وفي أحسن الأحوال يقع الجميع في ارتباك وتشوش عند التعاطي مع أثار الأزمة. لكن في جميع الأحوال لا تغيب بالمقابل مواقف التضامن وروح التعاون والإثار والتضحية لدى بعض الفئات والأفراد، خصوصا إذا توفرت الأدوات التنظيمية كالجمعيات الأهلية والأحزاب والنقابات، كما في المجتمعات المعاصرة والمتقدمة، أو كانت لدى بعض المجتمعات تقاليد عريقة في التضامن والتكافل تعززها القيم الدينية أو بعض السمات الثقافية التي تمتاز بها أعراق معينة.
مع الأسف كشفت الأزمة الراهنة عن حقائق مقلقة بشأن التضامن الدولي، كما تجلى ذلك بوضوح في الحالة الإيطالية حين أدار الاتحاد الأوروبي ظهره للإيطاليين وانغلقت معظم دوله على نفسها مكتفية بعبارات جوفاء أثارت غيض شعوب الاتحاد ونخبه ومثقفيه، وقد فُسّر الأمر على أنه النتيجة المنطقية لتغول الليبرالية الجديدة وتعبير صريح عن الانحطاط الأخلاقي للرأسمال ومؤسساته التي تحكم الاتحاد. ليس هناك عوامل حاسمة ونهائية تفسر ردود فعل الناس في الأزمات الوبائية اللهم حين يتعلق الأمر بفشل الدولة ومؤسساتها في تدبير الأزمة وتأمين استمرار الخدمات والدورة الإنتاجية، فتتضرر فئات وطبقات معينة بنتائج الأزمة، وحينها يكون من الطبيعي أن نتوقع أن تفلت الأمور من السيطرة إذا ما وصل السيل الزبى، أو أن تستغل جماعات معينة تحمل فكرا معينا أو أفكارا لا عقلانية الوضع فتطلق العنان لخيالها وتبدأ في نشر خرافاتها أو مزاعمها في اتجاه تأليب العامة على خصومها أو فئة معينة تستهدفها وترى الفرصة مناسبة لتصفية الحساب معها. وهذا يحدث كثيرا في الحروب الأهلية والهبات العفوية أو الجوائح الفتاكة والمجاعات التي تجعل الناس يفقدون بسهولة قدراتهم على تعقّل الموقف والتعامل بعقلانية مع المصائب.
س- الحديث أكثر عن علاقات القوة داخل المجتمعات، العوامل الاقتصادية، الطبقية، كيف يمكن للمجتمعات والأفراد التفكير بعقلانية عند مواجهة أزمة كهذه؟ هل هناك نماذج يمكن الحديث عنها؟
ج-سواء تعلق الأمر بأزمة صحية أو بأي أزمة أخرى من طبيعة فائقة أو بالغة هناك دائما ثمّ علاقات قوة تعمل خلف كل أنواع التدخل الطبي أو الأمني أو السياسي وغير ذلك من أوجه الفعل الاجتماعي. وهذه العلاقات يمكن أن تأخذ شكل عوامل اقتصادية أو اجتماعية طبقية، أو سياسية ورمزية أيضا، وهي تجد في الأزمات أفضل فرص للتعبير عن نفسها والدخول إلى منطقة الرهان. وقد أثارت الأزمة الوبائية الحالية نقاشا حادا حول النموذج المطلوب لمواجهة انتشار الجائحة، بين منتصر للنموذج الصيني التي يوصف بالشمولي المركزي من قبل خصومه، ويقوم على فعالية التدخل الدولتي ومركزة القرار الطبي بيد الحزب والدولة، وهو ما سمح للصين باحتواء الوباء بصورة مذهلة بتقدير أنصار النموذج؛ ومنتصر للنموذج الذي يوصف بأنه ديمقراطي- لا ندري على أي أسس يقوم عدا أنه يحترم حقوق الانسان والحريات ...، بينما أثبت في التجربة بأنه فاشل في احتواء الوباء وجعل حياة الناس في المقام الثاني بعد الاقتصاد. ولدينا مثال الأرقام المفزعة لأعداد الاصابات والوفيات بأمريكا ومن سار على نهجها من البرازيل والمكسيك وأوروبا...إلخ.
هذه المرة برزت تجارب محلية حظيت بانتباه الغرب نفسه، كما هو شأن التجربة المغربية التي وصفت بأنها عقلانية من ناحية الرؤية الاستباقية وإعطاء الأولوية للصحة العامة على المكاسب الاقتصادية، فضلا عن تعبئة الروح التضامنية بشكل مؤسساتي وفّر رصيدا مهما من الأموال والامكانيات لمواجهة تطورات الموقف، خصوصا في ظل وجود منظومة صحية ضعيفة ومحدودة الامكانيات البشرية والمادية. مع الأسف ذهبت كل الجهود سُدى بعد التراجع عن سياسة الحجر الصحي الكلي وتخفيف إجراءاته تحت ضغط المجتمع والمقاولات لنجد أنفسنا اليوم أمام وضعي مقلق ينذر بوقوع انهيار صحي لا قدر الله سيكون كارثيا إذا لم يتم وقف انتشار الوباء في الأيام القليلة المقبلة. ويبقى النموذج الكوري ربما الأفضل من حيث التخطيط العقلاني والاستجابة الشعبية والحفاظ على نوع من التوازن الصعب بين الحفاظ على الصحة العامة واستمرار الحياة الاقتصادية بأقل أضرار...
س- في تجربة كورونا، وخصوصاً في البدايات، ظهرت حالة من السخرية/ الكراهية/ العنف/ التنميط/ اللوم على الأشخاص من ذوي الملامح الآسيوية في بلدان مختلفة عربية وأوروبية وفي الولايات المتحدة كذلك، وذلك لأنّ فيروس كورونا الأخير ظهر من الصين وارتبط في الإعلام بالآسيويين وعاداتهم الغذائية. ماذا عن إلقاء اللوم على الصينيين وعاداتهم الغذائية، وتغريدة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب التي وصف فيها الفيروس بـ "الفيروس الصيني".
ج-لا يزال ترامب يستعمل هذا الوصف إلى اليوم في تغريداته، وقد قرأت إحداها مؤخرا، وبالطبع تستمر الصور النمطية والكراهية والسخرية في الانتشار، وهي كانت موجودة دائما في الغرب وشائعة في صفوف فئات مختلفة، وليس فقط إبان الأزمة الوبائية الراهنة. أما الصين على الخصوص فهذه الصور مرتبطة، كما أشرت في مقدمة كتاب "صحوة الصين"(*)، بنزعة تأثيم بالغة الترسُّخ في العقلية الغربية الاستعلائية والمتمركزة إثنيا. الجديد ربما هذه المرة هو انتقال عدوى التمثّل العنصري للإنسان الأسيوي أو "الجنس الأصفر" إلى بلدان عربية عانى أهلها من نفس النظرات العنصرية والتنميط، وهو أمر ليس فقط مؤسف، بل مخزي يستحق الشجب والإدانة والتجريم لما يعكسه من انحطاط أخلاقي وانحدار خطير إلى مستنقع العنصرية البغيضة. والمخجل في الأمر أن حثالة المجتمع تصدّرت في بعض البلدان نشر الكراهية ضد الصينيين متناسية أو جاهلة بأن البضائع الصينية هي التي يستهلكها هؤلاء بأثمان رخيصة، وأن الأمر بتعلق بشعوب تصنع المعجزات بشكل فعلي وليس في الأحلام والأوهام، في جميع الميادين. الصين لا تملك الثروات النفطية التي تتربع عليها دول عربية، لكنها صنعت مجدا حضاريا يثير اليوم رعب القوى الغربية مثلما فعلت في الزمن الغابر، وهي من الحضارات العريقة. والأمر واضح اليوم: فاستمرار انتاج وترويج الصور العنصرية عن "الانسان الأصفر" مرتبط من ناحية بالميراث العريق للعنصرية الغربية، ومن ناحية أخرى بالصراع ورهان القوة في مواجهة الصعود المذهل للصين كقوة عملاقة ومنافس شرس للغرب في معادلة نظام دولي مترهل وآخذ في التآكل.
س- أخيراً نودّ الحديث عن الحراكات التي ظهرت وما زالت موجودة ، والتي ترفض اتّباع إرشادات السلامة، ولا تريد التصديق بأهمية أخذ الوباء على محمل الجدّ. كيف يمكن قراءة كلّ حالة على حدة؟ نتحدث هنا عن حراكات لها دوافع دينية وغيبية، وأخرى متعلقة بالحريات الفردية أو ببساطة الإهمال والتجاهل.
ج-مجملا يمكن القول أن أغلب مظاهر الرفض التي انتشرت في مواقع التواصل الاجتماعي، أو خرجت إلى الشارع على شكل مظاهرات مُندّدة بإجراءات الحجر الصحي أو قوانين الطوارئ الصحية في عدد من بلدان العالم، بما في ذلك أوروبا والولايات المتحدة، تشترك في نوع من القناعة المفبركة بأن الوباء غير موجود، أو على الأقل ليس بالخطورة التي يتم تصويره بها في وسائل الاعلام الحكومية، أو في خطابات العلماء والأطباء في مراكز الارشاد الصحي والهيئات الطبية، وبالتالي كل ما يُراد إقراره من إجراءات احترازية للحفاظ على السلامة العامة ومنع تفشي الوباء هو مجرد تمويه وخداع يُراد بهما السيطرة على الناس والتحكم بسلوكياتهم. بالنسبة للبعض يحاول تبرير رفضه للالتزام بقواعد الأمان بنوع من التسييس للخطاب ليظهر نفسه أنه ليس بمغفل تنطلي عليه حيل وألاعيب الشركات الدوائية أو" الماسونية الدولية"، وعندنا بالطبع تُوجّه الأنظار والاتهامات إلى الصهيونية وإسرائيل، لأن ذلك أسهل طريقة إلى وجدان الناس واستمالتهم لتصديق مثل هذه المزاعم التي لا تستند على أي دليل مقبول. وهنا أيضا يلتقي صنفان من اليمين المتطرف: الديني عندنا في الغالب، والعنصري والشعبوي في الغرب الذي يستغل الأزمة الراهنة لتحقيق نوع من الاختراق الشعبي. ومن السهولة إدراك هذا الأمر في نوع الشعارات المرفوعة والتركيبية الاجتماعية المشاركة في التظاهرات التي جرت في ألمانيا وبلجيكا واسبانيا أو الولايات المتحدة. أما في مجتمعاتنا فالخلفية الدينية لهذا النوع من الخطاب تفضح النوايا والأهداف الكامنة وراء ترويجه...
وفي كلتا الحالتين لا نجد تفسيرا لتحرك أقليات هامشية، مثل الجماعات اليمينية المتطرفة، سوى فيما تفعله الأزمات وتؤدي إليه من اختلالات نفسية وانسداد للأفاق ما يجعل ثمّ قابلية لدى الناس، خصوصا وسط الطبقات الشعبية أو الفئات المبلترة الأكثر تضررا من الانعكاسات الاقتصادية للأزمة، للسعي وراء خطابات تهريبية للأزمة، مثل التي أوجدت المناخ والتربة الخصبة لصعود النزعات الفاشية إبّان الأزمات الاقتصادية والانهيارات الاجتماعية للعقد الثالث من القرن الماضي. فقد نشهد نشاطا كثيفا للجماعات اليمينية المتطرفة في مثل هذه الظروف في غياب بدائل سياسية واجتماعية متماسكة وفاعلة، مثلما يتخوف الكثير من المفكرين وعلماء الاجتماع من غياب الفاعلين وسيادة الفراغ (آلان تورين، رجيس دوبري، آلان باديو...)
ومن جهة أخرى لدينا طبعا، وكما في الأحوال العادية، بعض الناس يتصرفون بلا مبالاة ولا يهمهم ما يجري من حولهم، إما عن جهل أو بسبب مواقفهم السلبية من الحياة والآخرين، وإلى جانبهم توجد أغلبية كبيرة ممن تستهين بخطورة الفيروس وتتصرف بنوع من الإهمال حين يتعلق الأمر بالالتزام بالتدابير الصحية، كالتباعد والنظافة وارتداء الكمامة، كما تُثار أيضا قضية الحريات الفردية، وقد رأينا كيف استأثرت بنصيب مهم من النقاشات وسط المثقفين والسياسيين، خصوصا في الغرب حيث نجد تيارا يعتبر أن الحرية قضية لا تقبل المقايضة ولو تعلق الأمر بوباء فتّاك، وأنه مرفوض مقايضة الحرية بالصحة والحياة، وبالتالي طُرح للنقاش النموذج الصيني في تدبير الأزمة...
(*) صحوة الصين، بين الماركسية وعالم الرأسمال. ترجمة وتعليق وتقديم (الدار البيضاء: منشورات نوافذ، 2015)؛ أو أيضا:
-الصين -عالم والانسان الجديد: بين الماركسية والرأسمال (نشر نور، 2017)