|
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
|
خيارات وادوات |
الطاهر المعز
2023 / 1 / 31
فَقَدْنا أديبًا عظيمًا وصديقًا للكادحين وللشعوب المُضْطَهَدَة ونصيرًا للشعب الفلسطيني
خسر العرب والطبقة العاملة الأمريكية صديقًا برحيل الروائي الأمريكي "راسل بانكس" عن 82 سنة، إثر معاناته من مرض السرطان، فقد زار، صُحبة المخرج السينمائي "أوليفر ستون" رام الله في آذار/مارس سنة 2002، والتقيا بياسر عرفات، وكان غزير الإنتاج، حيث نَشَر 21 عملا تنوعت بين الرواية والقصة القصيرة والشعر، تميزت كتاباته "الواقِعِيّة" بوصف وحشية الرأسمالية المعاصرة ومُعاناة الفُقراء وُمّال العالم من الإستغلال المادّي والضّغط النّفسي الذي تُخَلِّفُهُ الرأسمالية وآفاتها العديدة مثل الإدمان على المخدرات والعنصرية، وتهميشهم من قِبَلِ الرأسمال الذي يُغرقهم في العنف والحُرُوب والأزمات الاقتصادية والاجتماعية، وهي المشاكل التي خَبِرَها وعايَشَها، فهو من أصل طبقي فقير، وبقي وفِيًّا لخلفيته وبيئته التي نشأ فيها، وتطور أسلوبه من التّجريبية إلى الواقعية، وأبْدَعَ في ربط تجارب الحياة المعاصرة بأساطير الشعوب الأصلية الأمريكية (كتاب "حُكّام عِظام" 1995، على سبيل المثال)، واشتهرت بعض كتبه على نطاق عالمي، منها "الانجراف القاري" و"مفرّق الغيوم" ( 1995) وحاز "راسل بانكس" على الجائزة الأميركية للكتاب سنة 1982، وعلى جائزة جون-دوس-باسوس سنة 1995، وجائزة أنسفيلد – وولف سنة 1999، فضلاً عن تكريمات أخرى، كما نُقلتْ بعض كتبه إلى السينما مثل "الأيام القادمة الجميلة" و "بلاء"...
تمكّن من فَرْض نفسه كواحد من أعظم أُدباء عصره، كما كان يناضل من أجل القضايا التي يراها عادلة، حيث عارض بوضوح تخريب واحتلال العراق، وعارض "قانون باتريوت" الذي يُشرْعِنُ الرقابة والقمع والإعتقال التّعسّفي، كما ساند الشعب الفلسطيني، في حُدُود "الخطوط الحمراء" الأمريكية، وكان عضواً في "محكمة راسل حول فلسطين" التي دانت الاحتلال ووصفت جرائمه، وتميّز بجَرْأة مواقفه الدّاعمة للكادحين وللطبقة العاملة وللمواطن الأمريكي العادي البسيط، والمناهضة لطبقة الأثرياء التي "تتحكم وتتلاعب بالاقتصاد وبالمجتمع الأمريكي ، وهي التي تترك الناس في حُلْم لا يتحقّق، أي تتركهم في عالم الأوهام"، وفق تصريح له، نُشِرَ سنة 2015...
نشأ "راسل بانكس" في أسرة من الطبقة العاملة، ومارس هو نفسه العديد من الأعمال اليَدَوِيّة، وكان يرغب في شبابه بالانضمام إلى الثورة الكوبية، غير أن بعض العوائق حالت دون ذلك، كما كان يريد أن يكتب عن حياة ومشاغل وطموحات الطبقة العاملة، وشجّعه الكاتب "نيلسون ألغرين"، المنحدر من الطبقة العاملة أيضًا، وجاهَدَ "بانكس" (بعد نغادرته التعليم) حتى حصل على درجة البكالوريوس من جامعة نورث كارولينا سنة 1967، وناضل مع مجموعات طلابية من أجل الحقوق المدنية، ثم مَكّنته تجربته، عندما عاش ثمانية عشر شهرًا في جامايكا من الوعي بالترابط بين قضايا العالم والقضايا الداخلية الأمريكية، بين الإستغلال الطّبقي واضطهاد الشّعوب والمَيْز العنصري، واعتبر في روايته " جامايكا" (1980) أن مقاومة الإستعمار ومقاومة الإستغلال الطبقي والاضطهاد العنصري هي قضايا التقدّميين في العالم، وهي المواضيع التي تناولها كذلك إحدى أشهر رواياته "الإنجراف القاري، حيث يُركّز الكاتب على الرّبط بين قضايا الرأسمالية والعنصرية، والحَيْف الإقتصادي والإجتماعي الذي يُعاني منه المظلومون كأفراد وكطبقات، حيث تتشابك فُصُول السيرة الذّاتية للعامل مع فصول حياة الملايين من الكادحين، لتندمج في دينامية الإقتصاد والسياسة العالمية، وتُعَدُّ الرواية سردا وتحليلا واقعيا لحياة العُمّال، الأمريكيين والمُهاجرين، الذي هربوا من الحروب والمجاعات والفقر، في ظل الإستغلال الرأسمالي المُعاصر، وتحاول الرأسمالية ووسائل إعلامها (البروبغندا) إقناع الرجال البيض، منهم الفُقراء، بأن النساء والمُهاجرين والسود هم سبب إحباطهم وفقرهم وشقائهم وبؤسهم، بحسب الناقد الماركسي "فريدريك جيمسون"...
تُشكل رواية "الإنجراف القاري" إحدى أهم الأعمال الأدبية المُنحازة إلى صف الكادحين والفُقراء، حيث تُصرّ الرواية على التناقض بين الأغنياء والفقراء وعلى "إن الحلم الأمريكي - حلم حياة جديدة ، حلم البدء من جديد - قد انهار ليُصبح طيف خيال..."، مع المحافظة على أسلوب فنّي ممتازن يُصوّر ظروف العبودية الجديدة، خصوصًا في المزارع الكبرى الأمريكية، وفي العديد من قطاعات الخدمات، كالفنادق والمطاعم والقصور الفاخرة، حيث الإستغلال الطبقي والجنسي للفُقراء والمهاجرين الذين يعيشون في أحياء الصفيح والأكواخ، بضواحي المدن، وعمل "راسل بانكس" مع المخرج "راؤول بيك" (من هايتي) الذي أخرج أشرطة "كارل ماركس شابًّا"، و "أنا لست زنجيُك" و "إبادة جميع المتوحشين"، لتحويل رواية "الإنجراف القاري" إلى شريط سينمائي، وإبراز النضالات اليومية للعمال المهاجرين، ووحشية الرأسمالية، مثل رواياته السابقة منها ( Affliction ) أو ( Sweet Hereafter The) التي تحولت إلى أشرطة سيننمائية...
لا تكمن أهمية روايات "راسل بانكس" في قيمتها الأدبية فحسب، بل بجرأتها في طرح القضايا السياسية والإقتصادية والإجتماعية التي تنخر المجتمع الأمريكي، خصوصًا منذ فترة رئاسة رونالد ريغن، خلال عقد الثمانينيات من القرن العشرين.
يفتقر كتاب "الإنجراف القاري" إلى الأمل في إمكانية انتصار النضال الجماعي، فتغلب الطابع المأساوي (رغم واقعيته) ولا بصيص أو شُعاع ضوء يلوح في الأفق.
كان راسل بانكس" يعمل سبَّكًا، مثل والده، ولما كان في الثانية والعشرين من عمره، قرأ إعلاناً للمشاركة في ورشة كتابة إبداعية، بإشراف الروائي نيلسون آلغرن، وأدّت مُشاركته في تلك الورشة إلى تخلّيه عن مهنة السباكة وتصليح الحنفيات وقنوات المياه، وامتهان الكتابة، ليصبح واحداً من أبرز الروائيين الذين دعموا الطبقة العاملة والمهمّشين والمُضْطَهَدِين، أفرادًا وطبقات وشُعوبَا، ومن أبرز المُثقّفين المُعارضين للسياسات الدّاخلية والخارجية الأمريكية وسياسات الدول الإمبريالية. ولئن كان راسل بانكس مديناً لآلغرين في دخول عالَم التأليف، فهو الذي شجّعه على الاستمرار بالكتابة، في سن الثانية والعشرين، فإن بانكس لم يتمكن من نشر كتابه الأوّل (بعنوان "حياة عائلية") سوى في سن الخامسة والثلاثين (سنة 1975)، ولم يبرز وعيه بترابط القضايا سوى في كتُبه اللاحقة، حيث كتب عن تداخل واقع العائلات المُمزقة والمُشتتة مع ذكورية المجتمع والصراع الطبقي والميز العنصري في مجتمع أمريكي يدّعي تحقيق أحلام الناس ويدّعي العدالة والمساواة.
لفت انتباهي موقفه المدافع عن القضية الفلسطينية ( في حُدُود اليسار الأمريكي والغربي) والنّاقد للإستيطان الصهيوني، وتنديده العلني بالإستيطان الصهيوني ( في الأراضي المحتلة سنة 1967) في بعض التصريحات والمقالات، فضلا عن عضويته، منذ سنة 2009، في "محكمة راسل حول فلسطين"، التي نشرت نتائج التحقيقات والدّراسات بشأن العنف الإستعماري في فلسطين الذي اعتبرته ميزا عنصريا وإبادة للشعب الفلسطيني، وصنّفَتْهُ كجريمة ضدّ الإنسانية، ودعمت النداء من أجل مُقاطعة الكيان الصهيوني...
تعليقات
حول الموضوع
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي المركز وإنما تعبر عن رأي أصحابها |
|
هل ترغب بالتعليق على الموضوع ؟ |