نظرية الأوتار الفائقة من منظور الفلسفة العلمية

رائف أمير اسماعيل
2014 / 11 / 19

الجامعة المستنصرية
كلية الاداب – قسم الفلسفة
مؤتمر العراق الفلسفي السادس
((الفلسفة والتغيير- نحو مجتمع مدني أفضل))


مقدمة:-
الفلسفة على علوم زمانها...
والفلسفة والعلم (قدمين ) للفكر الانساني، ولا يمكن ان تخطو إحداهما الا حين تثبت الاخرى. واذا كانت الفلسفة هي (ام للعلوم )التي منها انطلقت وتخصصت فإن العلم ككل هو(أب للفلسفة) في الوقت نفسه، كونه المعيل المزود بثوابت المعارف، والمثير لشهيتها في البحث كلما جدد في اكتشافاته واختراعاته.
كانت سمة البحث عن الغذاء والاحتياجات الجسمية الاخرى للانسان التي تأصلت فيه من بداية نشأته الكيميائية على كوكب الارض هي الدافع لأن ينتشر في مكان أوسع وأن تتغير وتتوسع خرائطه عن المحيط فيما حوله. وقدعلَمه اختيار الغذاء الافضل والتحقق منه ومن صلاحيته أن يتحقق ويسأل عن ماهية المواد التي يتعامل معها.
وكان تنامي معرفة المواد الملبية للحاجات وتراكمها قد شكل اوائل المعرفة عنده.
وكان للبحث الجمعي عنده الذي زاد تعاونا وتشابكا بتشكل القرى والمدن دافعا آخر للنظر في ما حوله من زاوية أكبر... زاوية نظر البشرية واتساع حجمها. ومن بداية تشكل الحضارات نما السؤال عن الشمس والقمر والنجوم والكون وعن سطح الارض ومادونه وعن المواد وانواعها وأصلها. فبنت اولى الحضارات المراصد الفلكية واكتشفت المعادن وتعاملت مع خصائصها وابتكرت التحنيط، وبنمو خرائط الفكر، شك الانسان ثم اعتقد في وحدة الوجود فاختلط جانب من فكره هذا في أوائل معتقداته الدينية. ثم نمت الفلسفة وظهر الفلاسفة الذريون ليتكلموا عن أصل الوجود ووحدته. وتطورت الرياضيات بدءاً من عمليات المقايضة والبيع والشراء مرورا بعمليات البناء المنظم في بناء المعابد والاهرامات، لتشارك في اسس التفكير المنطقي.
اضطردت الخرائط المعرفية في الاتساع في كل الابعاد والاتجاهات، واضطرد معها السؤال الاكبر عن اصل الوجود وماهيته.. عن حجمه ومابعده. وزادت الاسئلة الفرعية لتؤسس العلوم بفصائلها مما استحصل من اجوبة كان الكثير منها لم يتحقق منه بعد.
ترافق هذا مع نمو حجم الدماغ وانتظامه وتميزه وتخصصه عبر الاجناس والسلالات البشرية. فقد زاد حجم قشرة مخه وعدد طبقاتها لتسمح بخزن معلومات وخرائط أكبرعن المكان وتسلسل أحداثه، لينمو ويبرز مفهوم الزمان، وليزيد التشابك المادي بين الخلايا العصبية فيزيد تشابك معلوماتها ويزيد التشابك المعرفي بين الافراد فيزيد معدل الذكاء العام للبشرية عبر العصور.
تخصص مبحث الانطولوجياOntology في الفلسفة وأستند من ضمن ما استند في بحوثه على العلوم الطبيعية، منها علم الفيزياء فغدا هذاالعلم وتجريبه وتقنيته هو ناظور فلسفة الانسان للبحث في الوجود ومتاهاته ... أصل الوجود وماهيته .. حركة الاشياء والعلاقات فيما بينها.
وظاهرة الفيزياء هي نمو فلسفي بهياكل قانونية أسندتها معادلات رياضية .. فهي سؤال تلاه جواب .. ثم سؤال آخر من جديد.. وهكذا تبقى الفلسفة هي المحرك الأساس لناظور الفيزياء الذي أصبح الآن عملاقا خارقا لإتجاهات جديدة وأعماق سحيقة.
لن ينجح الفيزيائي مالم يكن ذهنه مسلحا بخيال الفلسفة وشكها ودحضها ... دون أن يتسلح على الاقل بمنبتها الحدسي وأندفاعها البايولوجي دون أيما شرط في إتباع اصولها ومذاهبها . ففيها تكمن الرغبة والتصميم لكي يأتي الفيزيائي بالجديد. بفهم جديد لما طرح، وأفكار جديدة للحوم حول الاشكالات المستعصية .. وهيكل بنائي جديد للحل ..
و(أجمل ما في الفيزياء هو التنبؤ بحالة غير منطقية مستحيلة الوقوع عقليا من اشتقاق معادلة ما، وهي لم تشاهد من قبل)1،فهكذا مثلا تنبأ العالم ديراك من خلال احدى المعادلات بوجود البوزويترون .. وتنبأ اينشتين بأنحراف الضوء عند اقترابه من الشمس و تغير نقطة حضيض عطارد كنتائج لنسبيته العامة. هذا الترابط الوثيق بين الفلسفة والبايولوجيا والفيزياء هو مايصبوا اليه بحثنا هذا الذي يتضمن المحاور التالية :-
أولا - فكرة عامة عن نظرية الاوتار الفائقة
كانت محاولات علماء الفيزياء ومازالت هي ايجاد نظرية واحدة تفسر كل الوجود الكوني وحركته بمعادلات موحدة. ولقد كانت حالة عدم التوافق بين نظرية النسبية العامة لآينشتين التي تمنحنا الاطار النظري لفهم العالم في ابعاده الكبرى: النجوم والمجرات وتجمعات المجرات، وما وراءها، ونظرية ميكانيك الكم، وهي التي تزودنا بالاطار النظري لفهم العالم في اصغر ابعاده : الجزيئات والذرات وحتى الدقائق تحت الذرية مثل الالكترونات والكواركات، الى الحد الذي باتت فيه الواحدة تنفي الأخرى برغم ان العلماء تأكدوا تجريبيا من صحة تنبؤاتهما معا، هي الحافز لظهور نظرية الاوتار الفائقة التي يعتبرها علماؤها انها نظرية كل شيء او النظرية النهائية. وهي تتلخص بأنها تعتبر كل الجسيمات دون الذرية التي هي وحدات بناء كل المواد في الكون، ماهي الا اوتار فائقة الصغر من الطاقة ، وان كل جسيم هو متكون من فتيل يتذبذب ويهتز ويتراقص مثل حلقة من المطاط متناهية النحافة احادية البعد وليس طوله (النمطي) بأكثر من 33-10 من السنتمتر وهو ما يطلق عليه طول بلانك (اصغر طول مادي في الوجود). وان شكل الاهتزازات الذي يسبب انحناءات على الوتر الواحد هو الذي يحدد نوع الجسيم الدون الذري المعين وما يرافقها من برم وشحنة وكتلة.
وان الوجود هندسيا متكون من احد عشر بعدا منها اربعة منظورة (ثلاثة ابعاد مكانية مع الزمن) وسبعة خفية او مجعدة بداخل الوتر نفسه لذلك فأننا لا نراها او نحس بها (وهذه الابعاد متكاملة وتمثل جزءاً كليَ الوجود من النسيج الفضائي، فهي موجودة في كل مكان. فإذا حركت يدك على شكل قوس كبير، فأنك في الواقع لا تحركها خلال الابعاد الثلاثة الممتدة فقط، بل خلال هذه الابعاد المتجعدة كذلك)2. وبذلك فأن الكون وكل أحداثه ما هو الا سيمفونية أوتار فائقة الذبذبة، وهو عزف موسيقي ليس الا، ومن الممكن معرفته ومما يتكون من خلال معرفة الاوتار ونغماتها. وهي ايضا تتبنى مديات نظرية الانفجار الكبير(بك بانك) بأن الكون لحظة الانفجار الهائل قد تفجر عن كتلة مجهرية اصغر كثيرا من حبة الرمل.
يقول برايان غرين وهو أحد علماؤها (ولاول مرة في تاريخ الفيزياء، اصبحنا نمتلك اطارا له المقدرة على تفسير كل السمات الاساسية التي يقوم عليها بناء العالم . ولهذا السبب توصف نظرية الاوتار أحيانا بأنها قد تكون نظرية كل شيء او النظرية النهائية او الاخيرة)3.
ثانيا - علاقة علم الفيزياء بتطور الدماغ
بينت النظرية الطبيعية الكيميائية والاكتشافات العلمية المستمرة التي زادتها وثوقا، بأن الحياة قد نشأت على كوكب الارض من قبل أربع مليارات سنة تقريبا بفعل التحولات الجيولوجية ونتائجها الكيميائية والتي مازالت مستمرة، وستستمر. وأن الكائنات الحية ظهرت تباعا من ابسط انواع البكتيريا الى الانسان نتيجة لتوالي التعقيدات الكيميائية بدءاً من تشكل ابسط الحوامض الامينية والنووية، والتفاعل المتبادل مع البيئة.
وبينت الدراسات الحديثة أن دماغ الانسان هو نظام عصبي متطور عن أسلاف من الانظمة العصبية بدءاَ من خاصية الاستجابة الكهربائية وتكون قنوات أيونية عند الكائنات الوحيدة الخلية ثم تكون مسارات عصبية (أعصاب) عند الكائنات متعددة الخلايا ثم عقد عصبية في ما تلاها من كائنات حية ظهرت، وصولا الى الادمغة التي أصبح أعقدها دماغ الانسان. رافقها تكون مستقبلات الحس التي تطورت الى الحواس الكفوءة عند الكائنات الحية العليا ومنها الانسان.
وأيضا اكتشافات علمية أخرى بينت ان دماغ الانسان الحديث هو أكبر أدمغة الكائنات الحية وزنا بالنسبة الى وزن الجسم (عدا طائر السنونو) ويشكل 2,5%. كذلك أن وزن دماغ انثى الانسان أقل بـحوالي (100غم) من وزن دماغ الذكر. وهو قد تميز بحيث تكون المناطق الرابطة فيه (مناطق التفكير) أكبر وزنا من باقي الكائنات الحية الادنى منه في سلم التطور والتي تتراجع فيها تباعا حجم (وأيضا وزن) هذه المناطق فتعتمد في سلوكها على النسبة الاكبر في وزن المناطق الحسية والحركية في أدمغتها. وأن دماغ الانسان هو الوحيد الذي تميزت فيه نصفي كرته المخية وظيفيا لتنسق عمل ست طبقات من قشرة المخ (أربع طبقات عند القردة)، عدا تميز وتطور مناطق الدماغ الباقية (الدماغ الاوسط والخلفي) والتي تقع اسفلها، ومنها منطقة الدماغ الحوفي (منطقة العاطفة والمفاهيم الذاتية).
هذه الاكتشافات والدراسات التي سارت بموجبها هي التي رجحت ان هناك تطور تدريجي في ذكاء الكائنات الحية .. وان الانسان اذكاها. وهو واضح أيضا خارجيا من السلوك الذي يتبين فيه قدرته على السيطرة على باقي الكائنات الحية الاخرى ومقدرته في اكتشاف العلم وتوجيهه تقنيا، للاختراع الذي وصل به الى صعود القمر والتوغل في التفاصيل السحيقة للمادة. وبالاضافة الى التطور التدريجي الذي حدث في حجوم أدمغة سلالات الانسان من بارانثروبوس بويزي (Paranthropus boisei) (500 سم3) مثلا الذي عاش قبل ( 1,75) مليون سنة بطول(130سم) ومعدل عمر وبوزن (68) سنة للذكور والاناث باقل من ذلك، الى الانسان الحديث(البشر)(( Homo sapiens بمعدل ( 1500سم3) فقد بينت الدراسات أيضا التفاوت الوراثي بين ابناء البشر انفسهم وان دماغ الانسان مازال يتزايد في الحجم حيث أثبتت دراسات حديثة أعدها باحثون بجامعة شيكاغو أن هناك مورثين أو جينين مرتبطين بحجم المخ يتطوران على نحو سريع لدى الإنسان وبشكل مستمر.(( وذكر الباحث الرئيس في البحثين (بروس لاهن) وهو حاصل على الدكتوراه ويعمل مساعد بروفيسور للمورثات الإنسانية بجامعة شيكاغو، ومحققاً في معهد هوارد هيوجز الطبي (أن دراستنا تبيّن التوجه الذي يحدد خصائص التطور البشري.. نمو حجم وتعقيد المخ المرجح أن يستمر، وفي نفس الوقت فإن بيئتنا والمهارات التي نحتاجها للعيش فيها تتغيّر على نحو سريع أكثر مما تخيلنا.. وأتوقع أن يستمر المخ البشري في التأقلم مع هذه التغييرات).... وقد أظهر لاهن مسبقاً أن هناك تطوراً متسارعاً في الإنسان فيما يتعلق بعدة مورثات تشملmicrocephalin وaspm، حيث يقوم كلا هذين المورثين بالتحكم في حجم المخ وبذلك كانا مرشحين جيدين للبحث عن الانتقاء، وقد وجدنا ذلك عندما قمنا بمقارنة الإنسان مع الأنواع الأخرى.. وأضاف (كامتداد طبيعي لذلك، تسائلنا إذا كان هذا الانتقاء للمورثات ما زال مستمراً لدى الإنسان؟) وفي البحثين العلميين، درس العلماء التغييرات فيmicrocephalin و aspm في الإنسان الحديث.. وقد وجدوا أدلة بأن الجينين استمرا في التطور.
وبالنسبة لكل جين، نشأت فئة واحدة من المتغيرات مؤخراً وانتشرت على نحو سريع بسبب تفضيل الاختيار الطبيعي لها.. وبالنسبة للـmicrocephalin، نشأت فئة واحدة متغيّرة منذ 37.000 سنة وهي تظهر الآن في حولي 70 بالمائة من البشر. أما بالنسبة لASPM نشأت الفئة المتغيرة الجديدة منذ 5800 عام وتظهر الآن لدى حوالي 30 بالمائة من البشر اليوم. وتُعتبر هذه النوافذ الزمنية قصيرة بشكل استثنائي من حيث التطور، وتبيَّن أن المتغيرات الجديدة خضعت لضغط انتقائي مكثف مما أدى إلى تكرارها خلال فترة زمنية قصيرة.. وكلاهما بعد ظهور الإنسان الحديث منذ 200.000 سنة.. وقد ظهر كل عامل متغير في نفس وقت حدوث السلوكيات الحضارية.
وقد ظهر عاملmicrocephalin مع ظهور خصائص مثل الفن والموسيقى والممارسات الدينية وتقنيات صنع الأدوات المعقدة التي يعود تاريخها إلى حوالي 50.000 سنة.
وقد تزامن متغير ال ASPM مع أقدم حضارة معروفة وهي حضارة ميزوبوتوميا في العراق التي يعود تاريخها إلى 7000 سنة قبل الميلاد.. وقد استمر الmicrocephalin في التطور التكيفي بعد ظهور الإنسان الحديث.))4. من هذا البحث نستنتج وجود اربعة سلالات وراثية عند البشر ... فمنهم ممن لم يظهر عنده تغير في الجينين ومنهم من ظهر عنده النوع الاول فقط ومنهم من ظهر عنده الثاني فقط ومنهم من ظهر عنده الاثنين، وهي السلالة الاكثر استعدادا للذكاء.
أضافت آخر الدراسات عامل آخر مهم جدا، من خلاله نستوحي التميز الفسلجي لبعض من البشر يترأسهم العباقرة،فقد بينت دراسة أخرى- تفوق ذكاء دماغ آينشتين فسلجيا،عندما قامت الباحثة في علم التشريح ماريان دياموند من جامعة بيركلي بكاليفورنيا، باجراء اختبار دقيق على قطع من دماغ أينشتاين وذلك للمرة الاولى في العام،1985 فلاحظت خصوصية غريبة في القشرة الدماغية لأينشتاين تتمثل في وجود عدد كبير جداً من الخلايا غير العصبية المعروفة بالاسم العلمي(Glie) أي مجموعة الخلايا غير العصبية للدماغ والتي تعني المادة الموكلة بالحفاظ على تماسك الخلايا العصبية.فقد تبين انها تكون وسيطة في تأسيس اشتباكات أضافية الى الاشتباكات عبر الفجوات الاشتباكية بين الخلايا العصبية نفسها، مما يوسع عملية اشتباك المعلومات الواردة والمخزنة وسهولة انتقالها.
كل ما ذكرنا كان هو الاساس المادي والفسلجي لتنامي ظاهرة الدماغ وزيادة الادراك والذكاء فيه حيث بينت دراسات اخرى ان دماغ الانسان يتطور باستمرار نتيجة التعلم، فالزوائد الشجرية(الناتئة من الخلية العصبية) تتفرع كلما اكتسبنا معلومات جديدة، و زيادة تفرعها يزيد من الذكاء و بالتالي قدرة أقوى على تذكر المعلومات، فكلما زاد تشابك الخلايا العصبية في المخ زادت نسبة تواصلها وتبادلها للمعلومات والعمليات المنطقية، وهذا يجعل لوزن الدماغ وعدد خلاياه ومشابكه تأثير أساسي على كمية الذكاء.
وبعودة الى تقسيمات الدماغ تشريحيا والتي حاكت تطوره عبر الاسلاف:-
(إن أدمغتنا تتألف من طبقات عدة متميزة و متمحورة تبدأ من أكثر الطبقات بدائية وتحوي على طبقات متتالية أكثر حداثة تحيط بالطبقات السابقة.
الطبقة الأولى - من المخ والأكثر عمقاً والتي يدعوها البيولوجي باول ماكلين القاعدة العصبية، وهي التي تتحكم في وظائف الحياة الأساسية مثل التغذية و الإطراح ودوران الدم والتنفس وكافة الآليات والأعمال الحيوية، وتتألف من النخاع الشوكي وجذع المخ(النخاع المستطيل) والمخ الأوسط، وتؤلف القاعدة العصبية في الأسماك معظم المخ.
الطبقة الثانية - وهي طبقة الزواحف- وهذه الطبقة تحيط بالقاعدة العصبية، وهي مشتركة بيننا وبين الزواحف، وتضم الفص ألشمي والجسم المخطط والكرة الدماغية الشاحبة، وتتحكم هذه الطبقة في السلوك العدائي والتراتب الاجتماعي وتحديد منطقة النفوذ.
الطبقة الثالثة - وهي تحيط بالطبقة السابقة وتسمى النظام أو العقل(الدماغ) الحوفي وتوجد في الثدييات, وهي تتحكم في العواطف والتصرفات الاجتماعية بشكل رئيسي وفي الشم وفي الذكريات أيضاً.
الطبقة الرابعة - هي قشرة المخ - وهي تحيط بكل الطبقات السابقة وهي التي تتحكم في التفكير و الإدراك الراقي ولها وظائف أخرى، وهي موجودة لدى الثدييات الراقية. وهي متطورة جداً لدينا.
ويمكن تشبيه هذه الطبقات الأربعة- أو هذه العقول الأربعة، بأربعة مراكز قيادة متدرجة من حيث قدرتها وتطورها على إدارة استجابات الكائن الحي أو تشبيهها بأربعة معالجات تنظم وتنسق وتدير استجابات الكائن الحي، وهي تشارك جميعها في إدارة حياة الكائن الحي.)4
تم تقسيم الطبقة الرابعة وظيفويا (كونها غير متميزة ) وفق قاعدة اتلافها وبيان الاثر في السلوك وملاحظات تجريبة أخرى، الى مناطق حسية وحركية ومناطق تفكيروادراك راقي. وحسب تقسيم العالم برودمان قسمت الى (47) منطقة. ومايهمنا هنا أكثر هي ماتسمى بالمناطق الرابطة، وهي تتدرج للربط بين كل مناطق الدماغ ... مناطق الحس (التي تستقبل المعلومات من الحواس والحس الجسمي) ومناطق الحركة ومنها مناطق الكلام ومناطق الجهاز الحوفي ولتتخصص مناطق رابطة منها تقع خلف جبهة الرأس بوظيفة التفكير والادراك الراقي، وهي مانطلق عليها بالذهن أو العقل. وفي كتابي آلية انتاج الفكر في دماغ الانسان – نظرية الشبكة العنكبوتية)عرفت العقل هو:-
((العقل:- هو المناطق الرابطة القشرية في الدماغ يجري فيها الربط بين المعلومات الواردة من المناطق الحسية في الدماغ لتكوين الافكار أي علينا ان نفهم ان هناك شبكة (مادية)موجودة أطلقنا عليها(الشبكة العنكبوتية وهي الاستطالات الناتئة فوق الخلايا العصبية) وهي تقابل(السوفت وير) في الحاسوب وهي مانطلق عليه العقل. وهي(مكتسبة) وبنيت فوق(الدماغ الموروث جينيا أي خلاياه العصبية) وهو يقابل(الهارد وير) في الحاسوب.
وهناك شبكة كهربائية تمر من خلال (خيوط) تلك الشبكة العنكبوتية وهي تتحرك كل لحظة في جزء منها والشبكة الكهربائية وهي مانطلق عليه بالفكر ومنها(الشعور بالانا).))5
وبذلك بتتابع المعلومات الحسية والتقاءاتها ودمجها وتصنيفه آليا تتتابع الصور الحسية ومن ثم تتدرج الصور العقلية.. فتنشأ تباعا ظواهر الحدس والاستنتاج وتستحدث ظاهرة الخيال مما هو قد ثبت من ذاكرة حسية .. ويمكننا هنا في هذا البحث ان نضيف ونسمي ذاكرة أخرى هي (ذاكرة الخيال) وهي ذاكرة استنتاجية تأتي من التفكير في حالة اليقظة أو هي متأتية من الاحلام التي يمكن اعتبارها خيال غير منضبط لانعزال تلك الحالة عن الواقع واستلام المعلومات الخارجية عموما.
هذا مايجري في دماغ الانسان العادي ومايجري في ادمغة المفكرين والعلماء.
ومما سبق يمكننا استنتاج توسع حالة التفاعل مع البيئة وتوسع الخرائط الحسية وبالتالي الادراكية تجاهه الى الحد الذي وصلت اليه عند الانسان الحالي ان يرى قبة السماء ونجومها والارض وتضاريسها وكائناتها الحية، ويصمم علماؤها خرائط أخرى لايمكن فهمها من قبل عموم البشر، بسبب التدني المعرفي وقبله الفسلجي (الذي جاء من التباين الوراثي).واستنتاج تطور الاحساس بالزمن من الساعة البايولوجية البسيطة لدى الكائنات الحية الدنيا التي هي آلية احساس المتغيرات البيئية وتنظيم عمليات التمثيل الغذائي والنوم أرتبط بتغييرات المناخ وطلوع الشمس وغيابها كونها مصدر رئيس للطاقة، الى ان ترتبط بـ(ثقافة) التوقيتات وتطور تقنيتها وتوثيق ربطها بالحركة ... خصوصا بالاجرام السماوية ومن ثم تقسيم الوقت بشكل ادق وربطه بالقوانين المكتشفة ... ثم جاء دماغ اينشتين الاستثنائي ليغور في تلك القوانين من خلال التكثيف (الصدفوي) لشبكة معلوماته المخزونة فوق الاستطالات الخلوية العصبية. ليغير بشكل جذري مفهومي الزمان والمكان في النظرية النسبية.
للخيال العلمي الفضل الكبير في الاكتشاف او الاختراع الفيزيائي ومنه ماكان يتاثر به الانسان في مرحلة الطفولة في افلام الكارتون ومجلات الاطفال وغيرها فهي تنمي المرونة العقلية وتجعلها متوازية في الاتجاه مع الضوابط الصارمة التي يتلقاها من الاسرة والمجتمع والسير المنطقي للاحداث اليومية. وذلك الخيال يعتمد أيضا على الاساس الفسلجي والمعلومات العلمية.
يعتبر العالم الفيزيائي متشو كاكو (وهو احد المختصين بنظرية الاوتار)، ان سرعبقرية اينشتين هو قدرته على تكوين صور فيزيائية (حسية) مثلا قطارات متحركة وساعات متسارعة وانسجة ممدودة بدلا من الرياضيات البحتة.
تتفاوت احجام اقسام ومناطق الدماغ بين افراد الجنس البشري لتعطي تفاوتا في القابليات الحسية والحركية والذهنية وبالتالي سلوك الفرد،خصوصا اذا اضيف اليها التفاوت في التنسيق بين تلك الاقسام والمناطق... بالتشابك بين الخلايا العصبية بواسطة الاستطالات الناتئة منها فينتج عن كل ذلك تفاوتا في المهارة والموهبة والذكاء وكل دماغ هو نموذج جديد لايشبه اي دماغ اخر كما هي الجينات وبصمة الاصبع. ومثل ذلك هوالتشابك الاجتماعي ومنه التشابك المعرفي بين ادمغة الافراد فهو يعتمد على طريقة الاتصال ودرجات التفاعل فيما بينهم.
ينعكس الفرق بين وزني دماغي الرجل والمرأة في سيادة الرجل للحضارة الانسانية وأيضا هنا في عدد علماء الفيزياء كأغلبية مطلقة من الرجال، فلانجد مقابل افذاذ علماء الفيزياء الا مدام كوري.
من كل ذلك، يتبين لنا ان هناك علاقة بين التطور الاحيائي للإنسان ومنها دماغه وبين ظهور علم الفيزياء ومنه نظرية الاوتار الفائقة. فعلم الفيزياء هو حالة من حالات الانعكاس لانتظام الدارات الكهربائية المبنية على الخواص الكيميائية وتعقيد تفاعلاتها في شريحة الدماغ الانساني استجابة للمنبهات الخارجية وتراكمها بشكل معلومات مخزنة ومتفاعلة فيه. فالفكر الانساني ومنه العلم هو عملية بناء منتظم ومتسلسل (سببيا) وتعقد هائل للخواص الاولية (لما عرف باسم مادة) مثل الشحنة والبرم والكتلة انطلاقا من ابسط صورة منه في رد فعل الجسيم دون الذري تجاه ما يحيطه من جسيمات اخرى بتعابير هذه الخواص، ومرورا بتشكل القوانين وتعقيداتها المرادفة لبناء وتعقيد التفاعلات الكيميائية وصولا الى التشكلات المادية العضوية ومنها الكائنات الحية التي ترأسها الانسان ودماغه الذي يمثل اكبر تعقيد مكتشف لحد الان. بمعنى ان الذكاء الانساني هو حالة متطورة باستمرار اضطردت فيه أدمغة العلماء.
وعلم الفيزياء هو احد تلك التعقيدات الكيميائية المستمرة في التعاظم داخل دماغ الانسان خصوصا ماكان منه منطلق من الجينات الافضل بالتلائم مع المحيط وأكثر (صدفوية) في (حس وحدس) متغيراته. ويشكل مسار التشابك الجيني بين الافراد لنفس المرحلة الزمنية او بالاجيال حالة التواصل والنمو لهذا العلم في الادمغة البشرية متراكما ومنتجا حالات متجددة هي اكثر انسجاما مع اسسه. وهكذا انتجت الكيمياء نماذج من الادمغة (الفذة) سمّوا بعلماء الفيزياء. وتطور التفاعل الكيميائي فيما بينهم ليتجلى ويتضخم هذا العلم ونظرياته كأعظم ماعرفته البشرية من علوم لكونه يتعامل ويفسر الوجود الظاهر والباطن محاولا فهم تلك الظواهر وماهيتها واصلها وغاياتها .
ولقد كانت الملاحظات البشرية البسيطة والنماذج الفلسفية و حتى الميتافيزيقية منها حسب كل مرحلة تطورية (كدارات كهربائية دماغية)لتفسير ظواهرالوجود واصلها دافعا مهما في استمرار تتابع القوانين الفيزيائية، واحيانا كانت هي قائدة له في رسم خيال ينسجم مع تلك القوانين او تلاقي مدياتها.
وهكذا انتظمت دارات التواصل المتسلسل والجدلي والشمولي بين نماذج ثالس وديمقريطس وافلاطون وسبينوزا وفرنسيس بيكون وسبنسر وماركس وكوبر نيكوس ونيوتن واينشتين وكالوزا ورذرفورد وماكس بلانك وستيفن هوكنك وعبد السلام وواينبرغ وغيرهم الكثير لتنتج نموذجا فيزيائيا جديدا رسم فوق ورقة الحدس الفلسفي، ومنبعثا من جيل جديد من عظماء الفيزياء مثل برايان غرين وادوارد ويتن الذي يعتقد البعض بأنه اعظم فيزيائي على مر العصور.
وهكذا ظهرت نظرية الاوتار الفائقة الى الوجود الفكري كاعظم نظرية فيزيائية لتفسير الوجود وماهيته، وتفسير ماسبقها من اراء ونظريات خصوصا نظريات النسبية وميكانيك الكم وحل اشكالاتهما بأعادة صياغة الاسس من جديد.
ثالثا - الفلسفة والحدس الفلسفي في نظرية الأوتار الفائقة
بغض النظر عن انتظام الفلسفة الى اصول ومناهج ومذاهب، فهي سؤال يراود الانسان مادام امامه مجهول، وهي استغراب مما عرف بأنه معلوم. فلقد وجدنا والسؤال والقلق والشك والحيرة هي جزء من تركيبتنا الكيميائية الغير مستقرة والتي هي جزء من آلية عمل الدماغ. فهوجزء معبر عن مصالح كل خلايا الجسد و(ارتباكها) الكيميائي. ومهما فهمنا بقي الارتباك وبقي السؤال مادامت هناك حركة في الوجود وفي اجسامنا. نحن متغير يلحق ليفهم متغير.
من المهم جدا ان نظن ان الزيادة التدريجية في حجم المناطق الرابطة (الطبقة الرابعة) في الحيوانات العليا ومنها الانسان قد أدت الى تزايد نسبة النظرة الموضوعية على حساب النظرة الذاتية.فقد حدث ابتعاد تدريجي عن الطبقة الثالثة (العقل الحوفي). وهي امتلأت بالمعلومات المعرفية الأولية والعلمية التي خزنت قريبا من المناطق الحسية كونها اقرب الى العالم الموضوعي. ثم تلاها معلومات مخزنة مستنتجة منها تمثل(منطقة حدسية) تمثل التقاءات اولية وجزئية لما قبلها من معلومات (ثابتة) تليها (منطقة)الادراك وهي أشبه بنهايات هرمية لاشتباكات المعلومات التي سبقت. ويختلف موقع تلك المناطق وحجمها من شخص لآخر...كلما زاد حجم المعلومات زاد السؤال مما بعد المناطق الحسية، ثم اتجه وتخصص.
الاشتباك مع الافراد الباقين يعطينا معلومات تم ادراكها من قبلهم فيكون مدركات جديدة، لكنها تبقى هشة عموما كونها لاتستند على قاعدة الهرم الحسية.
من التجربة الفردية واختلاطها مع مدركات الآخرين، من تجاربهم واكتشافاتهم تتطور خرائط الزمكان لتكون افكار عقائد ومذاهب.
وبعودة أكثر توضيحا لدور القشرة المخية في انتاج الفكر ومنه العلم والفلسفة فأن القشرة المخية حسب تقسيم العالم برودمان (مناطق برودمان) تقسم الى( 47)منطقة وظيفوية وكالتالي:-
أ- المناطق الحسية:- وهي المناطق المتخصصة بمختلف الاحساسات وهي موجودة عموما بالفص الجداري وفيها مناطق الاحساسات العامة ( أرقام 3،1،2) وفي منطقة الفص القحفي حيث يوجد الحس البصري (أرقام 19،18،17) وفي منطقة الفص الصدغي حيث يوجد الحس السمعي (أرقام 22،42،41).
(مخطط يوضح مناطق الوجهين الخارجي والداخلي للمناطق القشرةالمخية وارقامها حسب تقسيمات العالم برودمان)

ب - المناطق الحركية:- وهي المناطق المتخصصة في السيطرة على مختلف حركات الجسم الارادية وغيرها وهي عموما توجد الفص الجبهي وفيها توجد المنطقة الحركية الاولية (رقم 4) والثانوية (رقم6) والحركة العينية (رقم 8) والنطق(رقم 43) .
ج - المناطق الرابطة:- وتكون معظم سطح قشرة مخ الانسان وهي مناطق غير متخصصة تستلم الياف واردة , من عدة مناطق من الجهاز العصبي ومن مناطق القشرة المخية نفسها وترسل الى كل هذه اليافا صادرة، وظيفتها ربط فعاليات اقسام قشرة المخ المختلفة، مع بعضها البعض. وبذلك تقوم بدور هام, في وظائف المخ العامة ، كالتفكير، والذاكرة. وأهم هذه المناطق هي :-
1- المنطقة الرابطة الجدارية:- وهي الرابطة للحس الجسمي وتعطى رقمي 5و7 وهي تربط بين الاحساسات العامة من مناطق الجسم المختلفة مع مناطق السمع والبصر والذوق حسية وهي بذلك ترسم للشخص صورة عامة وواضحة عن كل ما يجري في محيطه.(وأرى هي اصل الميل الى الابداع الفني والادبي).
2‌- المنطقة الرابطة الجدارية القفوية:- وهي المنطقة(رقم 39) وهي مسؤولة عن معرفة الكلمات المكتوبة وحس ترتيب الاجسام وعلاقتها ببعضها البعض والمنطقة (رقم 40) مسؤولة عن فهم الكلمات المسموعة وعلى قابلية في فهم مدلولاتها واستعمالاتها.
3- المنطقة الرابطة الصدغية:- وهي المنطقة(رقم 37)وتكون مسؤولة عن فهم معنى الكلمات المكتوبة والمنطوقة والمنطقة (رقم 38) وهي مركز الذاكرة الطويلة الاجل.
4- المنطقة الرابطة قبل الجبهية:- وتكون هذه المنطقة متطورة في الحيوانات العليا وخصوصا الانسان ولاتوجد في الحيوانات الدنيا وارقامها (9و10و11و12و13و24و32و44-47)وهي تربط بين معظم المناطق المخية وهي تقوم بوظائف تؤثر على شخصية واخلاق الفرد وبعض الوظائف الفكرية له , ولكنها مع باقي المناطق المخية، تقوم بوظائف الذاكرة الحديثة والذكاء.
ان المناطق المرقمة ( 9و10 و44و45)هي التي تمارس اعلى الوظائف الفكرية او الادراك العقلي الناجم عن التعامل مع المجردات وينفرد بها الانسان ( بالاضافة الى المنطقة الرابطة الحسية) وهي حديثة التكوين وارقى جميع المناطق المخية من ناحية الموقع والاهمية.
وبذلك اوصلتنا الشبكة العصبية في المناطق الاخيرة الذكر الى (بيت الفلسفة) ومكان انطلاقها، وهي ايضا (بيت العلم) وانطلاقه والى مايمكن اعتباره (مادةالعقل).هنا استطاعت المادة ان توجد صيغة لفهم نفسها وعلاقاتها. وبهذا التنظيم الهائل والمعقد والمتسلسل استطاعت الجينات (صنيعة المادة) ان تحول كل ما تحس به حولها وبداخلها الى مسارات محددة ونظم وقوانين ورموز لكي يتم الفهم الاعمق والاتصال المتعدد، فصارت الفلسفة هي أعلى النظم الهلامية التي تغير شكلها مع شكل المحيط.
عموما عند الربط بين تطور الدماغ وظهور المذاهب أرى:-
* ان كل الكائنات الحية دون الانسان هي وجودية وواقعية وبرجماتية وتعددية لاصل الوجود وتتعامل مع الوجود من حيث هو وجود يتم التعامل معه بشكل مباشر بالاعتماد الكلي على الحواس والمصلحة. وتنتهج الشك واليقين حسب درجة تطور الحواس.
* في بداية النشوء للمناطق الرابطة قبل ان تتطور اكثر وتتميز وتتخصص، مال الانسان الى الميتافيزيقيا لعدم الدقة بالربط وتكوين الافكار المحددة.
* بداية ظهور منطقة مركزية في المناطق الرابطة ( يحتمل ان تكون رقم 9 او 10 او كلاهما) ادى انطلاق المذهب الواحدي وعندما يكون التمركز هذا متخصص وحوله لم يتخصص كان المذهب الواحدي الروحي واذا تخصص حوله ايضا انطلق المذهب الواحدي المادي.
* رجع الانسان الى الوضعية والوجودية والواقعية والبرجماتية عندما تميزت وتخصصت كل المناطق الرابطة وباقي القشرة. والاختلافات في هذه المناهج يرجع الى الاختلاف الدقيق في نسب مساحات المناطق يضاف له التاثر بالثقافة الاجتماعية التي تطغي احيانا وتلغي الميل للتخصص الفلسفي المستند على هذه الاسس المادية العقلية او يحد منها.
* كلما زاد حجم منطقة الذاكرة رقم (38) والمناطق قبل الجبهية بصورة عامة اتسعت دائرة الابستمولوجيا وزاد اليقين على الشك.
اذن الفلسفة والعلم لهما منبت حدسي واحد هو ينبثق في المناطق الرابطة الحسية ولهما بيت واحد يشتركان في العيش والتزاوج فيه هو المناطق الرابطة قبل الجبهية. وهو مايتبين هنا في تدرج انشاء نظرية الاوتار الفائقة، كآخر مذهب فلسفي أوجده البشر لحد الان.
لتتبع الاثر الفلسفي للنظرية بمراجعة بسيطة للظاهرة الفلسفية نرى ان نتائج هذه النظرية هي بمثابة تعزيز لبعض الرؤى والنماذج الفلسفية التي سبقتها خصوصا الميتافيزيقا ومذاهبها المثالية وبعض المذاهب المادية وكأنها انطلقت من خليط منها. وبأمثلة مختصرة تنتج العلاقة الحدسية بين الاصل الواحد الفيزيائي (من الاوتار) والمذهب الواحدي بشقيه المادي والروحي لكون ان الاوتار ذات البعد الواحد هي ليست المادة المتعارف عليها قديما والتي تتجسم بذرات من ثلاثة ابعاد تعود عليها المتفلسف المادي القديم. وربما علاقة بين مذهب التعدد والتكثربشقيه ايضا والابعاد الاحد عشر او، ان هذه الابعاد هي جزء (محسوس) تسبب في ظهور الاتساع او التمدد من الصفات اللانهائية للاصل (الله في نظر سبينوزا) وكذلك فأن ظهور الزمكان بعد الانفجار يتشابه مع الميتافيزيقيا الدينية بخلق الزمان والمكان وعدم وجودهما قبله، ونسبيته هنا هي نسبية الاحساس العقلي به في نظرعمانؤيل كانت. وبين فكرة المادة والمادة المضادة مع المذهب الثنائي وان غلبة المادة على المادة المضادة هي تشبه غلبة (الله) على (ابليس). وربما يكون مبدأ الانتروبي او مبدأ اللادقة هما في علاقة مع الاستمرارية في التسيير(الالهي) للوجود وتجديده في نفس الوقت الذي يكون (الله) هو( قانون القوانين) الثابتة التي تحتمها هذه النظرية. والاتصال عبر (الثقب الدودي) هو مشابه لفكرة (الله القريب البعيد) وطقوس الاتصال معه او (الصلاة). وبذلك فأن نظرية الاوتار لم تأت تتويجا لنظرية النسبية والنظرية الكمية وماتبنتا من آراء فيزياية سبقتهما او تخللتهماعلى مر التاريخ المنصرم فحسب بل هي توجت الكثير من الحدس الفلسفي والنماذج الفلسفية. وبالرغم من ان الفلسفة (الحسية) ممثلة بالوضعية والمادية كانت قد رفضت الميتافيزيقيا ومذاهبها المثالية ورجحت السيربخطوات منهج البحث العلمي وكانت الاساس لانطلاق العلوم الحديثة ومنها الطبيعية، فان الميتافيزيقيا بصورها المرفوضة للوجود مازالت تظهر ملوحة عن نفسها عند نهاية نفق العلم. والحقيقة في القول هنا بأنها رغم ضبابيتها وعدم اعتمادها على اسس منطقية او محسوسة او متسلسلة سببيا، وبالتالي لايمكن الاعتماد عليها في تكوين صور(واقعية) للوجود وظواهره وعلاقاته، فانها ايضا لم تات من(العدم)، بل ربما هي استنادا للنظرية اتت من حدس خفي منطلق من الاتصال بالابعاد الخفية التي تملأ كل نقاط اجسامنا الوترية، وأن العشوائية بعض الاحيان تكسرحواجز منطق العلاقات الجسمية ذات الابعاد الاربعة فترى صورا وجودية (بالنفق الدودي) سابقة بذلك طرق التحقق الحسي (المادي).
في مواطن عديدة من كتاب الكون الانيق، الشارح لنظرية الاوتار الفائقة وهو من تأليف أحد عباقرتها العالم برايان غرين كما اشرنا، بين المؤلف الاثر الفلسفي الخفي الدافع لظهور النظرية، حيث نرى ذلك في استخدامات مثل (فهما حدسيا ص12، كرات الله ص19، الصدفة ام باختيار الهي ص 23 مجرد فلسفة عديمة الجدوى ص28، فلسفة الاختزاليين ص 28،التسلسل المنطقي ص87،ادراك عقل الرب ص139،تغيير حدسي بسيط ص 196،تغذي الخبرة الحدس 209، وربما يكون هناك حضارة ميكروسكوبية مأهولة باناس خضر اصغر ص226،التناظر الحدسي ص 248 وعبارات لاينشتين مثل(ان الله لايلعب النرد مع الكون 128، في ما اذا كان امكن الله أن يخلق الكون بطريقة مختلفة ، أي ماإذا كانت ضرورة البساطة المنطقية تركت له أي حرية ص 311).
رابعا - المديات الفلسفية لنظرية الاوتار الفائقة
في اوائل نشأة نظرية الاوتار الفائقة، كانت تفترض 10 ابعاد ثم تطورت الى اضافة بعد آخر سميت نظرية (م-) لكي تكون منسجمة أكثر مع الحسابات المفترضة.. ومازالت النظرية لم تكتمل بعد. يقول برايان غرين (بعد قرون من الآن، ربما تكون نظرية الاوتار الفائقة،او ماتطور منها في اطارنظرية (م-)، قد تطورت أبعد كثيرا من صياغتنا الحالية وللدرجة التي يمكن ألا يتعرف عليها افضل رواد البحث العلمي اليوم. وبمواصلة بحثنا عن النظرية النهائية، فأننا قد نجد أن نظرية الاوتار ليست إلا واحدة من الخطوات الاساسية على الطريق نحو المفهوم الاعظم للكون، المفهوم الذي يتضمن أفكارا تختلف جذريا عن أي شيء تعاملنا معه في السابق)6
اذن المديات الفلسفية المنطلقة من نظرية الاوتار أو الإسهام في إكمالها مازالت مفتوحة بكل آفاقها فبعض العلماء يعتبرون النظرية هي مازالت في طور الإطار الفلسفي العلمي. وأهمية البحث هنا هو بيان أهمية ما نحدس ونقدم من نماذج فلسفية جديدة مبنية على مواكبة تطور العلم الحديث لتكون دافعا جديدا للمسار العلمي في مزيد من الاكتشافات ومنه لتطوير نظرية الاوتار نفسها عسى ان تكون حقا نظرية كل شيء. فمثلا هي لم تجب عن أصل الاوتار أو ماهيتها أو كيف تقسمت بهذا الطول، ولا من أين أتى اهتزازها.ومازالت النظرية لايمكن التاكد منها تطبيقيا. ومازال الواحد منا كانت خلفيته الفيزيائية عاجزا في ان يتصور(حسيا) هندسة فراغية بأحد عشر بعدا وكذلك فانها لم تمنع الذهن من طرح اسئلة جديدة تشكل صدمة عنيفة له. فقد بدأ الانسان بفهمه للمادة على تصور انا جسم متراص او مكون من جسيمات دقيقة متراصة اسماها اليونانيون بالذرات، مهما كانت حالاتها. ثم بتوالي الاكتشافات وطرح النماذج الذرية المتتالية تبين انها مكونة من اجزاء تدور حول اجزاء(الالكترون يدور حول البروتون) وتدور هي حول نفسها بصفة البرم، ولحد هنا فأن المادة لايمكن تشكلها بدون الحركة. ثم تبين من خلال معادلة اينشتين الشهيرة (الطاقة = الكتلة × مربع سرعة الضوء) انها حالة تكثف للطاقة التي مازالت مجهولة الطبيعة. ثم جاءت نظرية الاوتار لتفترض ان المادة تكونت من وتر من الطاقة.وبقي فهم طبيعة الاصل وأصله مجهول.
أرى هنا ان أهم ما تدفعنا اليه نظرية الاوتار بتبنيها التوغل السحيق في المادة، هو أيجاد النقيضين التاليين:-
أ- في فكرة وحدات البناء الاصلية:- فالاختفاء التدريجي لصفات المادة وصولا الى الوتر الذي لا يملك الا صفتي الطول والحركة يحفز في أذهاننا تقارب في مفاهيم الصفة والموصوف قد يصل الى حد التطابق في هذا المستوى, والغاء او تصحيح مفهومنا للمادة والطاقة بشكل جذري وافتراض تنوع وحدات البناء الى مالانهاية وعدم وجود أصل ثابت لها بسبب تنوع القوى المؤثرة في اهتزاز الوتر، وهو مانراه في اختلاف مستويات الطاقة حتى في نوع واحد من الجسيمات دون الذرية كالالكترون مثلا، فيكون الوتر هو حالة من حالات تحولات الوجود اللانهائية التي تصنعها باستمرار صفة الحركة وليس أصله.
ب - أثبتت الملاحظات العلمية وقوانين الفيزياء ومنها هذه النظرية قول طاليس(ان الحركة صفة لاتتجزأ عن المادة، فالحركة والمادة حالة متلازمة كالعلة والمعلول).لكن نحن ولحد هذه النظرية وجدنا الحركة ولم نجد من المادة الا ماهو انعكاس للحركة.
أرى ان قوة الفلسفة تكمن في تسويق المعطيات منطقيا الى أفتراض يبدو غير منطقي لحل مشكلة ما ثم التمعن والبحث فيه. لذا نحن نصطدم هنا بخيال جديد يبنى عليه افتراض يبدو غير معقول بسبب تراكم هائل في منطق بنيتنا المعرفية التي تعودنا عليه كونها تنشأ بفعل الدارات الكهربية وليس لما قبلها من تشيؤ ...وهو ان تكون الحركة هي اصل المادة، حيث كما نرى أن لا وجود للمادة بدونها. والحركة حقا هي التي لاتفنى ولاتستحدث وانما تتحول في الاتجاه والسرعة والكثافة، وهي من تتفاعل او تندمج او تتقسم لتعطي اوضاعا او اشكالا معينة. وهي من تنشيء الزمكان.
وأخيرا ولحد هذه النظرية أيضا وللكشف عن وجه (صورة) الوجود و(حقيقته) أمامنا احتمالين:-
اما هو ثابت ونحن نكبر بالمعرفة ليتم تغطيته ومعرفة كل وجهه.
واما هو متغير تماما ولايوجد شكل أصل لحقيقته فتكون المعرفة هي عملية مواكبة مستمرة لتغيراته، وهذا مانراه الافتراض الاصح بالربط بين تطور بنية دماغ الانسان وتوالي النظريات الفيزيائية، من ضمنه عملية استكمال نظرية الاوتار الفائقة.
الخاتمة
كما رأينا أن الفلسفة في بحثها الدؤوب عن الوجود قد تطورت بعاملين اساسيين وهما التطور في البنية المادية للدماغ والتطور في ايكال غورها الى علم الفيزياء بمدياته الواسعة التي تشمل الفيزياء النووية وفيزياء الفضاء، وهي بقيت في تلازم تام مع كلا التطورين.
وكما رأينا انها باعتمادها على العلم تكون أكثر قابلية في رسم صورة واضحة ومفصلة عن الوجود باعتبار العلم هو منهج أكثر رسوخا وتجربة وأكثر دقة ، خصوصا ان المديات السحيقة للمادة لايغنيها الالفاظ والمفاهيم العامة، بل الارقام الدقيقة والهندسة المتعددة الابعاد.
لذا، يتوجب على الفلسفة اليوم أن تلازم العلم اينما اتجه وأينما غار.وأن يكون لها القدرة في الربط المحكم بين كل التخصصات العلمية، لكي تكون الاشد قربا من حقائق الوجود منها الى الخيال الزائف والغير مجدي. فكثير منها ماخلا العلم قد أصبح الآن هو أشبه بأساطير الاولين، أو حكايات أدبية لطيفة ليس الا.

الهوامش
(1) بحر الطاقة العظمى ص22
(2)الكون الانيق ص233
(3)نفس المصدر ص31
(4) الدماغ ينتج الوعي والفكر ص 8
(5) آلية انتاج الفكر في دماغ الانسان ص 160
(6) الكون الانيق ص 407
المراجع
1-غرين،برايان،(2005)،الكون الأنيق،ترجمة فتح الله الشيخ، المنظمة العربية للترجمة،بيروت. لبنان. الكون الانيق،
2- داي، وليم،نشأة الحياة على كوكب الارض، ترجمة يعقوب يوسف ابونامطبعة دار الشؤون الثقافية بغداد1989
3- الحمداني، خليل ,2012 ،بحر الطاقة العظمى، دار الكتب والوثائق
4- كاكو، ميشو، فيزياء المستحيل، ترجمة د. سعد الدين خرفان،عالم المعرفة 2013
5- الهلالي، صادق،(1972)،الجزء الأول والثاني، فسلجة الجهاز العصبي، الطبعة الأولى، مطبعة الأديب البغدادية. بغداد. العراق.
6- الطويل، توفيق، أسس الفلسفة، دار النهضة العربية 1964
7- اسماعيل، رائف أمير2012، آلية انتاج الفكر في دماغ الانسان، دار ومطبعة عدنان، بغداد، العراق.
8- حاجي نايف، نبيل ، الدماغ ينتج الوعي والفكر http://arabic.nabeelnayef.com/index.php?option=com_content&task=view&id=498&Itemid=34

9- لاهن، بروس، مجلة العلوم، 22/ديسمبر/2006
http://www.sciencemag.org/content/314/5807/1872

:

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي